تتوازى حالة الاغتراب التي تطرحها الرواية، مع حالة الموت بما يشير إليه من غيابٍ وانقطاعٍ عن المحيط، في إحالة إلى مأساة تعيشها أمتُنا منذ قرون. والذين عانوا جرّاء هذه المأساة هم أولئك الذين اكتووا بنار الحروب التي أوجدت أزمات فكرية ونفسية حفرت عميقاً في دواخلهم. فـ'نسرين'، الشخصية التي توهجت في ذهن الراوي كفكرة، خرجت على وجودها الورقي لتعيش الواقع. وهي تسافر من لبنان إلى الكويت بعد موت والدها وزواج والدتها، لكن ذكريات الحرب التي شهدت اضطرامَها تظلّ ترسم وجهَ حياتها، وتضغط عليها: 'نسرين شيء مختلف ونقيّ، شوّهت طفولتَها الحربُ الأهلية، والدها أغلق محل بيع الملابس في الحمرا وانعزل في بيته، حتى ضاق عليه العيش والجيران، تسلّل وحيداً إلى بيروت الشرقية فأوقفوه على الحاجز، لم يكن يحمل ما يثبت هويته، ولم يصدّقوا أنه مسيحي، وأن له عمّاً ميسوراً في الدورة، لكنهم لم يقتلوه بل تركوه يرجع من حيث أتى، سار خطوات فاهتزّت المباني المهشمة، وتطاير غبار ودخان اعتادته الشوارع وألفه المقاتلون المتحصنون'
كما يلحظ القارئ، فإن فعلَ القتل يتكرر في الرواية، بأشكال مختلفة، وفي أزمان مختلفة، ربما لأنه الفعل الذي تلازَمَ مع نزول آدم إلى الأرض.
أما 'سعدي' الذي يحمل أحلامه إلى وطنه فلسطين، عائداً من الكويت بعد حرب الخليج، فيت**ّر على جسر العبور ويبكي هويته الضائعة: 'ابتهجَ لأنه وصل أخيراً إلى العسكري الذي حدق بوثيقة سفره وهز رأسه: فلسطيني.. وقّف هناك لما نشوف آخرتها معك' . ويبدو 'سعدي'، كما غالبية شخصيات الرواية، على قدر من الثقافة زادت من حدّة غربته وآلامه. إنه الوعي الذي يُشقي. فها هو سعدي حين ينتحب باكياً، يوضح: 'لا شيء.. فقط تذكرت رواية غسان كنفاني (رجال في الشمس).. أبكتني المفارقة.. ماتوا وهم يحاولون الدخول وأنا أُذَلّ بالأسئلة أُنَحّى جانباً كالوباء، وأنا مجبَر على عودة لم تكن التي شقيتُ من أجلها'
وهناك 'عصمت' القادم إلى عمّان من العراق وقد لوّثت حربُ الخليج الأولى، ثم 'عاصفة الصحراء' وتوابعها، ذاكرَتَهُ وذكرياتِهِ. وهناك 'جابر الثعالبي' القادم من تونس إلى العراق، والذي شارك في الحرب ضدّ إيران، فسقط رفاقُه على جبهات القتال بعد أن حمّلوه أماناتهم ووصاياهم الأخيرة، كونه الحيَّ الأخير المتبقّي بينهم.
هي شخصياتٌ تتنوع مشاربها ورؤاها وأفكارها، بعضها قادم من أزمانٍ بعيدة، وبعضها من عصرنا الذي نعيش، وهناك مَن هو قادم من عالم ورقي مفترَض، تعالَق معه الراوي ذهنياً حتى بات يشاركه حياته كأنما الشخصية الورقية من لحم ودم، كـ'عزيز التائه'، و'قاسم مهدي'، و'نسرين'، و'ليلى' التي تروي بعد موتها: 'ما حدث لي مع ليلى لا يمكن أن يُفهَم، لم تكن ثمة علاقة من أي نوع لأنها لا تمتلك من النساء غير الاسم والتصنيف البيولوجي، إرادتها أدهشتني عندما أخذتني إلى حيث دفنها والدُها حية'
وثمة شخصيات روائية أخرى عاش معها الراوي وعايش موتها ورحيلها الأبدي، كأمّه التي تركها 'تغفو على أطراف القرية': و'صفاء' التي تشاركُ الراوي، حلمَ الكتابة، وتشهد التخطيطات الأولى لمشروعه الأدبي، وتستمع إليه يحدّثها عن شخصيات روايته.
إن خوف 'صفاء' من فقدان الراوي الذي أحبّته، يؤكد فكرةً تقول: 'نحن الموتى لا نتعذب بموتنا.. نحن نعيشه بينكم، أنتم من تُعَذَّبون بموتنا' . ولذلك فإن صفاء التي ما تزال على قيد الحياة، تبدو أكثر موتاً من الراوي الميت، وتعترف: 'الآن أنا وحيدةٌ وحدةَ ميّت'
تأتي نهاية الرواية لتمثّل مفاجأة، إذ تكشف أن الراوي قد التقى بكل تلك الشخصيات (الميتة)، بعد موته، أي أن الراوي يروي وهو ميت؛ روحُهُ هي التي تروي.
تجسّد الأحداث التي عايشتها هذه الشخصيات، على اختلافها، تنازُعَ الموت والحياة على الكائن-الإنسان، وتجاذبَهُما إياه، إذ يبدو الموتُ خياراً للخروج من حياة قاحطة جدباء.. ويتخذ الصراع شكلاً مادياً، وآخرَ نفسياً داخلياً، كأنما هو صراع بين الوجود والعدم، غير أن العلاقة هنا علاقة تبادلية.
في هذه الرواية يسعى البراري لإبراز مقولته التي ترى أن 'الموتى يمتزجون بالأحياء كي تكتمل حياتهم.. الموت لا ينهي كل شيء'. فالموت في فلسفته حدثٌ عادي كغيره من الأحداث التي يعيشها الإنسان ويصادفها كل يوم. لذا، فإن رحلة الراوي مع شخصياته، اتخذت شكل الدائرة، ومَضَتْ في تحولات ومنعطفات وصولاً إلى قبر الراويالمحطة الأخيرة بالنسبة له، والأولى بالنسبة لمن سيأتي بعده، حيث الدائرة لا بداية لها ولا نهاية، والموت محورها الذي تدور حوله، وهو ما يشير إلى أن الحياة امتدادٌ للموت كما الموت امتدادٌ للحياة، وبهذا الوعي بدا أن هنالك اتساقاً واضحاً بين بنية الرواية من جهة، وثيمتها الأساسية من جهة أخرى. وهي الثيمة التي أكدت لغةُ البراري قدرتها على إضاءتها، إذ حافظت لغته على شاعريتها من دون انزلاق في التهويمات، وجاءت الصور متألقةً، والحدث مفاجئاً ينطوي على توهُّجٍ في تحولاته ضمن مسار أحداث الرواية.