تجلس على منضدتها الصغيرة أمام امها، تجدل لها امها ضفيرتها الطويلة التي في ثناياها يختبأ اسرار وأسرار .. وحكايا عشق وغرام، نظر عينيها الجريئتين الى ساعتها مستعجلة امها بالإنهاء. تقوم مهرولة الى مدرستها وضفيرتها تنضح على ظهرها كذيل فرس أصيلة.
تهرول الخطوات، تضم كتبها إلى صدرها كأنها تحمي قلبها من الخروج من قفصها الصدري، وعند زاوية الطريق تتجمد خطواتها، تراه ينتظرها هناك بمكانهم المعهود جنب شجرة السنديان.
كم تتوق للقياه كل يوم، تسارع الليل كي تلتقي فجره كم تتمنى ان تكبر، ان تخرج من ضفيرتها لتلهو في مسارح عينيه الشقية، تبتسم اليه برونق يملأ محياها جمالا.تعطيه في يده ورقة معطرة وتمضي مسرعة الى مدرستها. يفتح رسالتها بلهفة، " تستفز اناملي ورقتي البيضاء...تستدرجها لحرب طاحنة...الطخ قلمي بحبري وجبروت مشاعري...تبدأ احرفي بالتلاحم لتصب نفسها رصاصا في بارود كلماتي...تتراكم مشاعري بالطريق الزاخر بشتى المعاني..لا تعلم لأي طريق تتجه..يرتجف قلمي في كف يدي..يتفصد عرق حار من جبيني....وفجأة تنجلي مشاعري من بين دخان افكاري..عندما تتذكر رسمه البسمة على محياك..بريق عيناك...وشذى انفاسك ..فتختم معركتها مع صفحتي البيضاء..بجملة..احبك ما قبل البداية,وما بعد الابد"...يزهو منتشيا ما ارقى هذه الأنامل كم هي عبقرية اناملها, هذه الأنامل التي ابت ان تلمس وجهه المشتاق دوما لها، هذه الأنامل التي تأبى ان تشبع كبرياءه الذكوري المتبجح دوما باصطياد الإناث !!
يذكر نفسه مذ كان صغيرا، وسيم الهيئة معسول اللسان كانت تلاحقه البنات اينما ذهب حتى معلمات مدرسته لم يسلمن من شقاوته ووسامته ولكن هذه البنت؟ تأبى نفسها عليه ان تقترب، شهرين كاملين يطاردها وهي ما زالت ترشي كبريائه المزعوم ببعض رسائل المراهقة، بلا شك هي ترفعه حد النشوة عندما يقرأها ولكنه لن يرضى بالقليل.
ولكن اهو يحبها؟ ام تراه معلقا بنشوة اخرى فيها يتلذذ برسم شباكه العنكبوتي، انها تصغره بأربع اعوام، هو الان يشارف ان ينهي لقب المهندس، هي لا زالت طفلة بنظره، ولكنها طفلة مميزة بها شيء مميز، طفلة امرأة، اوقع بحباله الكثير من النساء ولكن هذه ما بها؟ اتوقعه كما يوقعها؟ ويتسنى له النظر الى رشاقة خطوتها فيشعر بخشخشة صغيرة ببطنه ولكنه يأبى ان يعير ذلك اهتماما، وسيبقى يطاردها الى ان توقع بشباكه او يوقع معها بالحب. أهذا ما يسمى بالعشق حقا؟انها لا تنفك تفكر بقامته المنحنية على جذع السنديانة ينتظرها بشوق، تذكر كيف اهداها اول رسالة اعتراف، " عينيك اللوزية الخضراء جعلت من قلبي منبراً للسماء، به اغني اسكر من احرف اسمك الغناء، اسمي أشرف وأنت ؟ " تذكر احرف رسالته عن ظهر قلب تزداد الوردة المنحنية على خدها تفتحاً، رأته اول مرة عند دكان الحي الشرقي ، كانت تحمل اكياس كثيرة من السوق، وقد عرض عليها المساعدة كم هي وسيمة عيناه شعرت به يتتبعها حتى اختفت ضفيرتها داخل مدخل منزلها، ظلت مرتبكة انذاك لا تدري ما خطبها، ولم تتوقع انه في الصباح الباكر سوف يتتبعها كل طريق مدرستها، على هذا الحال لمدة اسبوعين وبعدها لتراه ينتظرها على سنديانة الطريق، اعطاها الرسالة الاولى دون ان ينبس ببنت شفة، ولكن الى متى تدوم جولة الرسائل؟ وما به لا يتخذ خطوة الى الأمام ليتكلم معها، فهي الى الان كتبت الكثير من الرسائل ولكنها لم تبح باسمها قط, لم تقل له بأنها رهف.
تجلس مع اهلها على سفرة الغذاء، شاردة بذهنها ترسم تارة نفسها فراشة تحلق في زهور بستانه، وتارة اخرى نجمة لامعة على أثير احلامه، يأخذها من حلمها صوت اخيها الكبير متسائلاً اين هي شاردة، فتستدرك نفسها سريعاً وتقول بأنها متعبة من تحضير امتحانات الدبلوم. اخوها الكبير قاسي الطبع لطالما استنفرت منه وخافت ان يؤذيها بحشريته المعهودة، اما اخوها الصغير فهو اقرب لقلبها وارأف ويحلو لها تأمل وجهه السموح الذي به تشعر بطمأنينة عجيبة، وكم ودت ان تصارحه بما يدور في قلبها، ولكنها تخاف وتعدل عن ذلك في اللحظة الاخيرة. تخلو الى سريرها لتفتح رسالة اليوم، "اقتربي الي...كم بودي استنشاق انفاسك..كم بودي ان اكون زفيرك وشهيقك..كم بودي ان امتزج بجريان دمك..لأصل نبضك بقوة الضخ..واهمس لقلبك اني احبك..احبك سيدتي فاعتقيني من عبودية شوقي اليك..تحترق اوداجي كما الفراشة تحت نار عينيك .. محبوبتي ..يا من غزلت اطراف الليل من رمشك..تسيطرين على مدي وجزري كما القمر..خذيني مني اليك ..ودعيني في جنة عذابك افني نفسي...فاني فقط عاشق مراهق يتفنن ولهك في تعذيب هذا الأسير..أسير عينيك "،كم انتظرت هذا التصريح الواضح بالحب !! بعد اشهر من ملاحقة المعاني المتقمصة، احقاً يريد ضمها اليه؟ أيشتاقها حقا كما هي اليه؟... تغفو بين علامات السؤال , لا تدري هي بمكنوناته. تسرع كعادتها لتستنشق اثير الطريق, طريق احلامها، فتصدم عينيها بمكانه الفارغ، اين هو؟ وكيف تخلف عن موعدها ؟ تنظر الي السنديانة بألم وخوف، ايكون قد اعتزلها حتى قبل بدأ الجولة الاولى من المعركة؟.